وطن – في نوفمبر/تشرين الثاني، كان المتظاهرون في بلغاريا يحشدون جهودهم للإطاحة بحكومتهم احتجاجًا على الفساد وأزمة تكاليف المعيشة. وفي الوقت نفسه، كان أحد وزراء الخارجية السابقين لتلك الدولة البلقانية في أبوظبي يتحدث بإشادة عن محادثات “غير مسبوقة” حول اتفاق اقتصادي بين الاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة.
الدبلوماسي ووزير الدفاع البلغاري السابق نيكولاي ملادينوف يُنظر إليه حاليًا ليعمل أكبر مسؤول في غزة ممثلًا عن “مجلس السلام” التابع للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفق تقرير نشره موقع “ميدل إيست آي“.
وحسب الموقع يجري تداول اسمه كبديل لتوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، الذي قوبل ترشيحه بإدانة واسعة دفعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى البحث عن شخصيات أخرى.
ويُبرز التباين بين الجمود السياسي في بلد ملادينوف ومسيرته في الخليج كيف سعى إلى شق طريق خاص بين النخب في الشرق الأوسط، وحاز تقييمات إيجابية خلال عمله مبعوثًا للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط.
وقال أحد السياسيين الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة لموقع “ميدل إيست آي” عند سؤاله عن ملادينوف: “إنه أفضل بكثير من البدائل الأخرى”.
وقال مسؤول غربي لموقع “ميدل إيست آي”: “المسألة لا تتعلق به كشخص، بل بما تكشفه تعييناته، أي من يملك زمام العملية”.
وأضاف المسؤول: “من سيُختار سيتعرض لضغوط شديدة، لكن ملادينوف يتأثر كثيرًا بالإمارات، وبالتالي بإسرائيل أيضًا”.
الصعود بعد الشيوعية
وُلد ملادينوف عام 1972 في صوفيا لعائلة تنتمي إلى نخبة النظام الشيوعي؛ إذ كان والده جزءًا من جهاز أمني يعادل جهاز “كي جي بي” السوفيتي، وكان عمه سفيرًا في حقبة الحكم الشيوعي.
وقال الصحفي البلغاري المقيم في صوفيا، سفيتوسلاف تودوروف، لموقع “ميدل إيست آي”: “كان ملادينوف من فئة السياسيين الذين ارتبطت عائلاتهم بالنظام الشيوعي، لكنه تحول في التسعينيات والعقد الأول من الألفية إلى اليمين، لقيادة التحول الديمقراطي في بلغاريا بدلاً من أن يبقى مرتبطًا بماضيه”.
في عام 1999، حين كانت بلغاريا تتخلص من إرثها الشيوعي وتسعى للانضمام إلى أوروبا، أسس ملادينوف “المعهد الأوروبي في صوفيا” للدفاع عن فكرة الاندماج الأوروبي. وعمل لاحقًا مستشارًا للبنك الدولي، والمعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني.
هيمنت على المشهد السياسي البلغاري في العقد الأول من الألفية حزب “غيرب” الشعبوي الوسطي اليميني. وتولى ملادينوف منصب وزير الدفاع بين عامي 2009 و2010، ثم وزير الخارجية بين عامي 2010 و2013، كما كان عضوًا في البرلمان الأوروبي بين عامي 2007 و2009.
ظهر اسم ملادينوف في تسريبات “وثائق باندورا” عام 2021، حيث أظهرت الوثائق أنه أسس شركة تدعى “أفرون إنتربرايزز المحدودة” في سيشل عبر وسطاء سويسريين في عام 2013. وأوضح لموقع “بيرد دوت بي جي” البلغاري أن الشركة لم تكن نشطة قط، وأنه أنشأها قبل انضمامه إلى الأمم المتحدة.
“أنا آتٍ من البلقان”
بعد مغادرته منصبه كوزير خارجية بلغاريا، شغل ملادينوف لنحو ست سنوات منصب المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وهو منصب لم يشغله سوى تسعة أشخاص منذ تأسيسه عام 1994 خلال اتفاقيات أوسلو. ويعد المبعوث بمثابة الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في العملية.
وقد حظي ملادينوف بتقدير من معظم الأطراف، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، وإسرائيل، وحركة حماس.
وقال خليل الحية، القيادي البارز في حركة حماس، لصحيفة “نيويورك تايمز” عام 2021: “نحن فخورون بمعرفته”.
وكانت كل من بلغاريا وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة جزءًا من الدولة العثمانية سابقًا. وتكوّنت حدود بلغاريا الحديثة وسط صراعات إثنية بين الأتراك واليونانيين والبلغار. ونسب ملادينوف خلفيته البلقانية إلى الخبرة التي ساعدته في أداء مهمته كمبعوث أممي.
وقال في مقابلة وداعية مع صحيفة “نيويورك تايمز” عام 2021: “أتيت من منطقة البلقان. لقد غيّرنا الحدود، وخضنا حروبًا حول الأماكن المقدسة واللغات والكنائس. وتبادلنا السكان على مدى مئة عام أو أكثر. وحين تحمل هذا الإرث، فإنك ترى الأمور من منظور مختلف. فليس هذا صراعًا يمكنك أن ترسم له خطًا فاصلًا بسهولة، إنه صراع عاطفي”.
لكن ملادينوف حاز تقديرًا لدوره في تعزيز موقع المبعوث الأممي. ففي عام 2018، تعاون مع مصر للتوسط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في غزة، بحسب ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”.
وقال مسؤول عربي التقى ملادينوف عدة مرات أثناء توليه منصبه الأممي لموقع “ميدل إيست آي”: “يمتلك معرفة جيدة بالمنطقة، وعلاقات إيجابية مع الجميع تقريبًا، وقد عمل بجد لصالح غزة في ذلك الوقت”.
دور الإمارات المتنامي؟
منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تسعى دول الخليج إلى ترسيخ أدوار مختلفة لها.
في سوريا، تدعم السعودية وقطر وتركيا حكومة أحمد الشرع في مواجهة إسرائيل.
وفي اليمن والسودان، وهما بؤرتا الصراع الرئيسيتان في المنطقة، تقف السعودية والإمارات على طرفي نقيض.
قبل هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي قادتها حماس على إسرائيل والحرب على غزة، كانت قطر تتصدر دعم الفلسطينيين في القطاع بالمساعدات. أما الآن فإسرائيل تعارض نشر قوات حفظ سلام تركية في غزة، كما استهدفت مفاوضين من حماس في الدوحة في سبتمبر/أيلول، مما أثر سلبًا على العلاقات.
وتحفظ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال لقائه ترامب في البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني عن الإجابة بشأن تمويل إعادة إعمار غزة.
وفي ديسمبر/كانون الأول، قال رئيس الوزراء القطري محمد عبد الرحمن آل ثاني في مقابلة بمنتدى الدوحة: “لن نكون نحن من يكتب الشيك لإعادة بناء ما دمّره الآخرون… إسرائيل سوت هذه الأرض بالأرض”، في إشارة إلى القطاع المنهك بالحرب الذي قُتل فيه نحو 71 ألف فلسطيني.
وسط هذا المشهد، برزت الإمارات كأكبر مانح لغزة بين دول الخليج.
صِلة بوشائج كوشنر؟
وقال المسؤول الغربي لموقع “ميدل إيست آي” إن ملادينوف يجري محادثات مع مسؤولين أمريكيين مقربين من جاريد كوشنر، صهر ترامب، بشأن دوره الجديد. وإذا تم اختياره، فسيتولى مهمة الوسيط بين “مجلس السلام” التابع لترامب، الذي يُتوقع أن يضم قادة عالميين وتكنوقراط فلسطينيين على الأرض في غزة.
واحتفل ترامب بنجاح وسطاءه كوشنر وستيف ويتكوف في إبرام وقف لإطلاق النار في غزة في أكتوبر/تشرين الأول، إلا أن خطة السلام الأمريكية ذات النقاط العشرين للقطاع توقفت.
ووفقًا لمكتب الإعلام الحكومي في غزة، قتلت إسرائيل أكثر من 350 فلسطينيًا في مئات الهجمات التي انتهكت اتفاق وقف النار. وقال ترامب نفسه إن الولايات المتحدة تدرس ما إذا كانت عملية الاغتيال الإسرائيلية لأحد قادة حماس في غزة يوم السبت انتهكت الاتفاق.
وافق مجلس الأمن الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني على تفويض لنشر قوة دولية لتحقيق الاستقرار في غزة، لكن الدول العربية والإسلامية التي يُنتظر أن تساهم بقواتها تخشى الوقوع بين حماس –التي لم تُسلّم سلاحها– والجيش الإسرائيلي الذي يحتل نحو نصف القطاع.
تُدار خطط إدارة ترامب لما بعد الحرب في غزة من تل أبيب، بواسطة مجموعة من المعيّنين السياسيين المقربين من كوشنر. ويشرف الحاخام الأمريكي آرييه لايتستون على خطة لتقسيم غزة إلى منطقتين، على أن يُخضع الفلسطينيون لفحوص أمنية للعيش في ما يُسمى “المجتمعات الآمنة البديلة” ضمن المنطقة التي تحتلها إسرائيل.
ويقول مسؤولون عرب وغربيون للموقع إن ملادينوف بنى علاقات جيدة مع كوشنر عندما شارك في مفاوضات “اتفاقيات أبراهام” عام 2020، التي شهدت تطبيع العلاقات بين الإمارات والبحرين والمغرب مع إسرائيل.
وقال كوشنر لصحيفة “نيويورك تايمز” إن إدارة ترامب “كانت تثق بالدبلوماسي البلغاري” خلال المفاوضات وتقدّر “ملاحظاته البنّاءة”.
وقد اعتبر منتقدو تلك الاتفاقيات أنها خيانة من الدول العربية للقضية الفلسطينية، غير أن ملادينوف دافع عنها قائلاً إنها أسهمت في منع ضم الضفة الغربية المحتلة في ذلك الوقت.
ورفضت السعودية الضغوط الأمريكية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وخلال اجتماع في البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني، رد ولي العهد محمد بن سلمان علنًا على دعوة ترامب لإبرام الاتفاق بالقول إن الرياض تحتاج أولاً إلى قيام دولة فلسطينية.
أما الإمارات، فقد وقفت عمومًا إلى جانب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وكانت أقوى لهجة انتقاد استخدمتها هي التحذير من “خط أحمر” في سبتمبر/أيلول حين كانت الحكومة الإسرائيلية تطرح فكرة ضم الضفة الغربية المحتلة.
وقال ترامب لاحقًا إنه سيمنع إسرائيل من تنفيذ الضم رسميًا، رغم أن إدارته لم تفرض أي إجراءات على التوسع السريع في المستوطنات الإسرائيلية، الذي وصفه الخبراء بأنه شكل من أشكال الضم الفعلي.
وكتب ملادينوف في مقال نشره في نوفمبر/تشرين الثاني أن “الدبلوماسية الإماراتية كانت حاسمة في وقف خطط إسرائيل لضم الضفة الغربية في عامي 2020 و2025”.
ودعا إلى تعميق اتفاقيات أبراهام، مشيرًا إلى إمكانية إنشاء “منطقة تجارة حرة إقليمية، وصناديق استثمارية مشتركة لإعادة الإعمار، ومشروعات لتعزيز القدرة على التكيف مع التغير المناخي”.

